بسم الله الرحمن الرحيم
الاعتراض على نصوص الشريعة - قرآنًا وسنة - والنيل منها، والتنقص من قدرها، وتوهين أمرها، أمر كان ولا يزال شغل المشككين في هذا الدين، والضعفاء من أتباعه وأشياعه .
وفي هذا السياق، يطالعنا من يعلم ظاهرًا من العلم دون حقيقته، بأن ثمة تعارضًا بين آيات وردت في القرآن الكريم، تصرح بأن دخول الجنة إنما يكون بعمل العبد، ونتيجة لسعيه وكسبه؛ في حين أن هناك أحاديث وردت في "الصحيحين" تصرح أيضًا أن دخول الجنة ليس جزاء لعمل العبد، ولا هو نتيجة لسعيه، وإنما هو بفضل الله ورحمته .
ويفصل البعض الشبهة، بقوله: ( إن حديث: ( لن يدخل أحدًا عمله الجنة ) مخالف لقوله تعالى: { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } (النحل:32) ويضيفون إلى هذا قائلين: إن في القرآن آيات كثيرة في هذا المعنى...وإن ( صحيح البخاري ) فيه أصح الأحاديث، ولكن الناس بالغوا في تقديره، حتى وصلوا إلى تقديسه، مع أن المحدِّثين يقررون أن الحديث مهما كانت درجته، إذا خالف القرآن، ولم يمكن التوفيق بينه وبين الآية، نحكم بأن الرسول لم يقله ) .
هذا حاصل قول من قال بهذه الشبهة. ومراد قائلها أن يضع ويقلل من قيمة ( صحيح البخاري ) ومن باب أولى أن يسحب هذا الطعن إلى ما سواه من كتب السنة؛ وذلك بحجة أن فيها ما يعارض القرآن ويخالفه !!
وليس غرض مقالنا الرد على من أراد الطعن في كتب السنة، وما حوته من أحاديث وآثار، فقد كتب في هذا الكثير، وفي محور الحديث على موقعنا ما يفي بهذا الغرض، لكن حسبنا في مقالنا هذا أن نبين وجه التوفيق والجمع فيما يبدو من تعارض بين الآية والحديث، إذ هو الأليق بموضوع هذا المحور، محور القرآن الكريم .
وللوصول إلى ما عقدنا المقال لأجله، نستعرض بداية بعضًا من الآيات القرآنية التي تثبت وتصرح بأن دخول العبد الجنة إنما هو بعمله، وجزاء لسعيه؛ ثم نردف تلك الآيات ببعض الأحاديث التي تقرر وتصرح بأن دخول الجنة ليس نتيجة لعمل العبد، ولا هو جزاء على سعيه وكده، وإنما هو بفضل الله ورحمته؛ ثم نعطف على ذلك بنقل أقوال أهل العلم في وجوه التوفيق بين الآيات والأحاديث الواردة في هذا الموضوع، محاولين أن نستخلص منها القول الفصل في هذة المسألة. لكن قبل هذا وذاك نرى من المناسب - بل وربما من المهم - أن نمهد بكلمة موجزة تتعلق بمسألة التعارض بين نصوص الشريعة، فمن هذه النقطة نبدأ، فنقول:
إن القول بوجود تعارض حقيقي بين نصوص الشريعة - قرآنًا وسنة صحيحة - إنما يصدر عن أحد رجلين؛ إما عن جاهل لا حظ له من علم الشريعة في شيء، فمن كان هذا شأنه فليس من المستغرب أن يصدر عنه مثل هذا القول، ويبني عليه ما يريد أن يبني؛ وإما عن حاقد مضاد لهذه الشريعة، يتقول عليها ما يوافق أغراضه وأهوائه، وغير هذين الرجلين لا نقف على قائل بوجود تعارض تام بين نصوص الشريعة، أو تناقض فيما جاءت به من أحكام وأخبار .
ثم إنه من المفروغ منه عند كل من رضي الإسلام دينًا، والتزم به شرعة ومنهجًا، أن القرآن الكريم والسنة الصحيحة الثابتة، كلاهما يصدران عن مشكاة واحدة، وإذا كان الأمر كذلك كان وجود التعارض بين نصوص الشريعة - قرآنًا وسنة - أمرًا غير واقع، بل هو غير وارد بحال من الأحوال، وإن بدا شيء من ذلك فهو فيما يبدو للإنسان بسبب محدودية قدراته العقلية، لا على أن واقع الأمر كذلك. كيف لا وقد قال الله سبحانه: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } (النساء:82) فالآية الكريمة تقرر وتبين أن القرآن لو كان من عند غير الله سبحانه، لكان الاختلاف فيما جاء فيه وتضمنه أمر كائن وحاصل، بل هو الأمر الطبعي، أما وإنه ليس كذلك، إذ هو من عند الله سبحانه، فإن وقوع الاختلاف فيه أوالتناقض أمر غير وارد؛ لأن ذلك مما لا يليق بصفات الله سبحانه وتعالى .
ثم إن نفي الاختلاف الوارد في الآية الكريمة الآنفة الذكر، ليس عن القرآن فحسب، بل هو أيضًا عن السنة الصحيحة الثابتة؛ لأنها شارحة ومفصلة ومبينة للقرآن، قال تعالى: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } (النحل:44) وإذا كان الأمر كذلك، ثبت أن شأن القرآن والسنة واحد، ما دام أن مصدرهما واحد، وبالتالي امتنع أن يقع التعارض الحقيقي بينهما .
على أنه لا يُنكر وجود تعارض من حيث الظاهر بين آية وأخرى، أو بين آية وحديث، أو بين حديث وحديث؛ لكن كل ما يبدو من هذا وذاك، هو عند التحقيق والتدقيق منتف ومعدوم، وإنما هو تعارض فيما يبدو للناظر، لا أنه كذلك في واقع الأمر .
أجل هذا الملحظ، وجدنا أهل العلم - وخاصة علماء الأصول - يخصصون فصولاً في كتبهم تحت عنوان ( التعارض والترجيح بين الأدلة ) أو شيء من هذا القبيل، وهم يبحثون فيها ما كان من الأدلة ظاهره التعارض، ويقررون في ذلك قواعد تتعلق بالتوفيق والترجيح بين النصوص المتعارضة في ظاهرها، والمتوافقة في حقيقتها .
فإذا تبين ما تقدم، ظهر لنا أن ما قامت عليه هذه الشبهة من بنيان، إنما هو في الحقيقة بنيان هاو وهار؛ من جهة أن النصوص التي قامت عليها هذه الشبهة نصوص ثابتة لا شك في سندها، ولا مطعن فيها بحال، وإنما الطعن والشك قد يرد على طريقة فهمها، ومنهج التوفيق بينها، مما قد تختلف فيه الأنظار، وتتباين فيه الأفكار .
بعد هذا التوضيح لمسألة التعارض بين النصوص، نتجه صوب الشبهة - موضوع حديثنا - لنرى مدى صحة هذه الشبهة، ومدى قوة أو ضعف ما قامت عليه واستندت إليه. وهذا ما نسعى إلى توضيحه في الفقرات التالية، فنقول:
وردت في القرآن الكريم آيات صريحة، تبين أن دخول الجنة مرتبط بعمل الإنسان، ومتوقف على سعيه وجهده في هذه الحياة. ويفهم من تلك الآيات أن ثمة علاقة سببية بين فعل الإنسان ودخوله الجنة، وأن العمل سبب للدخول، وأن الدخول نتيجة للعمل؛ من ذلك نورد الآيات الآتية:
- قوله تعالى: { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } (الأعراف:43) وقال تعالى: { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } (النحل:32) ويقول سبحانه: { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } (الزخرف:72) فهذه الآيات وما شاكلها تدل على أن سعي الإنسان وكسبه والعمل بما أمر الله به كان سببًا لدخوله الجنة. ويفهم من هذه الآيات أن من لم يعمل بطاعة الله في هذه الدنيا، ولم يلتزم بأحكام شرعه فليس له نصيب من الجنة، ولن يكون من داخليها ولا من أصحابها. فهذا بعض من الآيات الواردة في هذا الشأن؛ أما الأحاديث، فنسوق منها:
- ما رواه البخاري في "صحيحه" أن أبا هريرة رضي الله عنه،قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ( لن ينجي أحدًا منكم عمله ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله ! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة، سددوا، وقاربوا، واغدوا، وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا ) وقد روى البخاري هذا الحديث في موضعين آخرين من "صحيحه" بألفاظ متقاربة .