دلال المغربي
3/10/1978
توقفت سيارة قرب دكان السمانة العائد إلى سعيد المغربي في شارع أبو سهل في
منطقة الطريق الجديدة. وقف سعيد وابنه أحمد، الذي لم يكن قد اجتاز
المراهقة بعد، أمام باب المحل يتفرسان في الفتاة العشرينية التي ترجّلت من
السيارة وهي تسير الآن نحوهما. عرف سعيد أنها ابنته دلال، لكنه امتعض
قليلاً. أما أحمد فانبهر برؤية شقيقته، للمرة الأولى، باللباس العسكري،
مسدسها ثابت على خصرها. ولما اقتربت دلال بادرها الوالد شبه مؤنِّب: «أنا
قبِلتِك تدربي وتلبسي عسكري، بس تحملي فرد وأنا موجود.. ما بقبلها».
ابتسمت دلال تراضيه. بذلت جهداً لتقنع أباها بأنها جاءت بالمسدس لتهديه
إياه، هو الذي ولد في العام 1922 وكان فدائياً فلسطينياً، منذ أيام عز
الدين القسام، يبادل محصول الأرض ومدخرات الأهل بـ«الفشكات»، ويخلق لدى
أولاده شعوراً بأنهم يعرفون «بلدهم» يافا شارعاً شارعاً لكثرة ما حكى لهم
عن الأزقة والأحياء التي كان، والرفاق، يخرجون منها لمواجهة قوات
الاحتلال. أخيراً اقتنع سعيد المغربي وقبل الهدية. أما الفتى أحمد، فبقي
مأخوذاً بالقوة التي ترشح من هندام شقيقته، إذ «لم نكن معتادين على رؤية
النساء باللباس العسكري».
كان ذلك يوم الاثنين. يوم الخميس غادرت دلال المغربي المنزل وانقطعت
أخبارها... حتى السبت في 11 آذار 1978، عندما ذاع نبأ استشهادها خلال
عملية نفذتها مع «فرقة دير ياسين» الفدائية، على مشارف تل أبيب. مع بلوغ
الخبر منطقة الطريق الجديدة، «وبعدما انتهت العملية مباشرة كان الختيار
(الرئيس ياسر عرفات) وأبو جهاد (خليل الوزير) عنا بالبيت»، كما يذكر أحمد
المغربي، «وأمي وصل ضغطها للـ25».
وبعدما استشهدت دلال، وقبل أن تحفظ جثتها في «مقابر الأرقام» لثلاثة عقود،
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود باراك، يقلب جسدها المخردق
بالرصاص أمام عدسات المصورين في محاولة لاستعراض «إنجازه» كقائد عسكري
تصدى لـ«عملية كمال عدوان» التي أسقطت عشرات الجنود الإسرائيليين.
وكمال عدوان، هو اسم القائد الفلسطيني الذي يعرفه باراك نفسه جيداً. إذ
ترأس الأخير الفرقة الإسرائيلية التي تسللت في نيسان 1973 إلى بيروت،
واغتالت عدوان وكمال ناصر ويوسف النجار في فردان.
بعد ثلاثين عاماً، وضمن صفقة تبادل الأسرى والجثامين بين حزب الله
وإسرائيل، ستغادر دلال، وهي ما تزال «بنت عشرين»، حضن أرض فلسطين إلى حضن
العائلة التي انتظرتها في لبنان طويلاً لكنها، مع ذلك، تطالب بألا تبقى
قربها ههنا، بل أن تعود إلى حيث أتت: «في رسالة أخيرة تركتها لنا، كتبت
دلال توصينا بالوالدة، وكتبت أيضاً أنها تريد أن تدفن في فلسطين. لقد
أخبرنا الأخوة في حزب الله والسلطة الفلسطينية برغبتها لكننا لم نلق
إجابات قاطعة حتى الآن».
هنا تقرر الحاجة آمنة إسماعيل الخروج عن صمتها: «إكرام الميت دفنه، كنت
أتمنى أن تكون ابنتي قريبة مني وأروح أزورها، لكن لازم نرضى بحكم رب
العالمين، وكنا مبسوطين أنها مستشهدة بفلسطين، محل ما كانت تحب، لازم
ترجع، هي كان هيك بدها». لكنها الآن تعود إليك يا حاجة.. «نعم، تعود،
وكأني تلقيت خبر استشهادها من جديد، لكن ما رح أقدر أشوف وجهها...». تدمع
عينا آمنة فيما تجهد ذاكرتها. نسيت الكليّة التي دخلتها دلال كطالبة سنة
أولى في جامعة بيروت العربية. لكنها تتذكر جيداً أنها، في ذلك الخميس،
طلبت أن تطبخ لها كوسى وورق عنب، ولم تلحق أن تأكل، «قالت لي بدي أروح أطل
على ناس بالمستشفى، فتحت الطنجرة وطعميتها لقمة، وما عدت شفتها».
لدلال شقيق توأم، اسمه محمد، يروى أنه يوم السبت المشهود أصيب بـ«عارض»،
ارتفعت حرارته وكان يتلوى من الألم، والطبيب في المستشفى لا يحزر سبباً
لما يعانيه. ثم «قدّرت» العائلة لاحقاً أنه كان يشارك توأمه آلام اللحظات
الأخيرة. ففي اليوم السابق للمرض الغريب الذي ألمّ بمحمد، وصلت دلال
(مواليد بيروتـ,1958 انتسبت إلى «فتح» في العام 1972) من شاطئ صور إلى
منطقة ساحلية قرب حيفا في قارب مطاطي. كانت تقود فرقة من عشرة فدائيين، من
بينهم يحيى سكاف. وكانت الخطة ، التي وضعها «أبو جهاد» (خليل الوزير)،
تهدف إلى السيطرة على حافلة إسرائيلية والتوجه بها إلى تل أبيب لمهاجمة
الكنيست. بدأت العملية في السادسة وأربعين دقيقة من مساء العاشر من آذار
,1978 وتمكنت المجموعة من السيطرة على سيارة مرسيدس استخدمتها لخطف باص
إسرائيلي اتجهت به نحو مدينة تل أبيب. وفي الطريق، سيطرت على باص آخر،
ونقل ركابه إلى الباص الأول واستؤنفت الرحلة الخطرة. وبالقرب من مستعمرة
الخضيرة خاضت المجموعة معركة عنيفة مع القوات الإسرائيلية، استمرت لأكثر
من ثلاثين ساعة، قتل وأصيب خلالها العديد من الرهائن والجنود الإسرائيليين
واستشهدت دلال مع ثمانية من رفاقها.
3/10/1978
توقفت سيارة قرب دكان السمانة العائد إلى سعيد المغربي في شارع أبو سهل في
منطقة الطريق الجديدة. وقف سعيد وابنه أحمد، الذي لم يكن قد اجتاز
المراهقة بعد، أمام باب المحل يتفرسان في الفتاة العشرينية التي ترجّلت من
السيارة وهي تسير الآن نحوهما. عرف سعيد أنها ابنته دلال، لكنه امتعض
قليلاً. أما أحمد فانبهر برؤية شقيقته، للمرة الأولى، باللباس العسكري،
مسدسها ثابت على خصرها. ولما اقتربت دلال بادرها الوالد شبه مؤنِّب: «أنا
قبِلتِك تدربي وتلبسي عسكري، بس تحملي فرد وأنا موجود.. ما بقبلها».
ابتسمت دلال تراضيه. بذلت جهداً لتقنع أباها بأنها جاءت بالمسدس لتهديه
إياه، هو الذي ولد في العام 1922 وكان فدائياً فلسطينياً، منذ أيام عز
الدين القسام، يبادل محصول الأرض ومدخرات الأهل بـ«الفشكات»، ويخلق لدى
أولاده شعوراً بأنهم يعرفون «بلدهم» يافا شارعاً شارعاً لكثرة ما حكى لهم
عن الأزقة والأحياء التي كان، والرفاق، يخرجون منها لمواجهة قوات
الاحتلال. أخيراً اقتنع سعيد المغربي وقبل الهدية. أما الفتى أحمد، فبقي
مأخوذاً بالقوة التي ترشح من هندام شقيقته، إذ «لم نكن معتادين على رؤية
النساء باللباس العسكري».
كان ذلك يوم الاثنين. يوم الخميس غادرت دلال المغربي المنزل وانقطعت
أخبارها... حتى السبت في 11 آذار 1978، عندما ذاع نبأ استشهادها خلال
عملية نفذتها مع «فرقة دير ياسين» الفدائية، على مشارف تل أبيب. مع بلوغ
الخبر منطقة الطريق الجديدة، «وبعدما انتهت العملية مباشرة كان الختيار
(الرئيس ياسر عرفات) وأبو جهاد (خليل الوزير) عنا بالبيت»، كما يذكر أحمد
المغربي، «وأمي وصل ضغطها للـ25».
وبعدما استشهدت دلال، وقبل أن تحفظ جثتها في «مقابر الأرقام» لثلاثة عقود،
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود باراك، يقلب جسدها المخردق
بالرصاص أمام عدسات المصورين في محاولة لاستعراض «إنجازه» كقائد عسكري
تصدى لـ«عملية كمال عدوان» التي أسقطت عشرات الجنود الإسرائيليين.
وكمال عدوان، هو اسم القائد الفلسطيني الذي يعرفه باراك نفسه جيداً. إذ
ترأس الأخير الفرقة الإسرائيلية التي تسللت في نيسان 1973 إلى بيروت،
واغتالت عدوان وكمال ناصر ويوسف النجار في فردان.
بعد ثلاثين عاماً، وضمن صفقة تبادل الأسرى والجثامين بين حزب الله
وإسرائيل، ستغادر دلال، وهي ما تزال «بنت عشرين»، حضن أرض فلسطين إلى حضن
العائلة التي انتظرتها في لبنان طويلاً لكنها، مع ذلك، تطالب بألا تبقى
قربها ههنا، بل أن تعود إلى حيث أتت: «في رسالة أخيرة تركتها لنا، كتبت
دلال توصينا بالوالدة، وكتبت أيضاً أنها تريد أن تدفن في فلسطين. لقد
أخبرنا الأخوة في حزب الله والسلطة الفلسطينية برغبتها لكننا لم نلق
إجابات قاطعة حتى الآن».
هنا تقرر الحاجة آمنة إسماعيل الخروج عن صمتها: «إكرام الميت دفنه، كنت
أتمنى أن تكون ابنتي قريبة مني وأروح أزورها، لكن لازم نرضى بحكم رب
العالمين، وكنا مبسوطين أنها مستشهدة بفلسطين، محل ما كانت تحب، لازم
ترجع، هي كان هيك بدها». لكنها الآن تعود إليك يا حاجة.. «نعم، تعود،
وكأني تلقيت خبر استشهادها من جديد، لكن ما رح أقدر أشوف وجهها...». تدمع
عينا آمنة فيما تجهد ذاكرتها. نسيت الكليّة التي دخلتها دلال كطالبة سنة
أولى في جامعة بيروت العربية. لكنها تتذكر جيداً أنها، في ذلك الخميس،
طلبت أن تطبخ لها كوسى وورق عنب، ولم تلحق أن تأكل، «قالت لي بدي أروح أطل
على ناس بالمستشفى، فتحت الطنجرة وطعميتها لقمة، وما عدت شفتها».
لدلال شقيق توأم، اسمه محمد، يروى أنه يوم السبت المشهود أصيب بـ«عارض»،
ارتفعت حرارته وكان يتلوى من الألم، والطبيب في المستشفى لا يحزر سبباً
لما يعانيه. ثم «قدّرت» العائلة لاحقاً أنه كان يشارك توأمه آلام اللحظات
الأخيرة. ففي اليوم السابق للمرض الغريب الذي ألمّ بمحمد، وصلت دلال
(مواليد بيروتـ,1958 انتسبت إلى «فتح» في العام 1972) من شاطئ صور إلى
منطقة ساحلية قرب حيفا في قارب مطاطي. كانت تقود فرقة من عشرة فدائيين، من
بينهم يحيى سكاف. وكانت الخطة ، التي وضعها «أبو جهاد» (خليل الوزير)،
تهدف إلى السيطرة على حافلة إسرائيلية والتوجه بها إلى تل أبيب لمهاجمة
الكنيست. بدأت العملية في السادسة وأربعين دقيقة من مساء العاشر من آذار
,1978 وتمكنت المجموعة من السيطرة على سيارة مرسيدس استخدمتها لخطف باص
إسرائيلي اتجهت به نحو مدينة تل أبيب. وفي الطريق، سيطرت على باص آخر،
ونقل ركابه إلى الباص الأول واستؤنفت الرحلة الخطرة. وبالقرب من مستعمرة
الخضيرة خاضت المجموعة معركة عنيفة مع القوات الإسرائيلية، استمرت لأكثر
من ثلاثين ساعة، قتل وأصيب خلالها العديد من الرهائن والجنود الإسرائيليين
واستشهدت دلال مع ثمانية من رفاقها.