الآية 9 من سورة الحشر
جاء في القرآن الكريم، في سياق مدح الأنصار وموقفهم من إخوانهم المهاجرين،
قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ}... (الحشر:9)،
والآية وإن وردت في شأن الأنصار، إلا أنها أيضًا تخاطب المؤمنين عمومًا،
وتحثهم على التحلي بهذا الخُلق الكريم خُلُق الإيثار، لأنه من طرق الفلاح
والنجاح.
لكن بالمقابل، نجد نصوصًا من السنة النبوية، تخاطب
المكلفين وتأمرهم بأن يبدؤوا بالإنفاق على أنفسهم أولاً، ثم على أهليهم،
ثم على الأقرب فالأقرب؛ وفي هذا السياق نقرأ قوله صلى الله عليه وسلم:
(خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول) رواه البخاري ومسلم.
وقوله
صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أراد أن يتصدق بكل ما يملك: (ابدأ بنفسك
فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن
فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا) رواه مسلم؛ وقد روي عن بعض الصحابة
رضي الله عنهم، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم متصدقًا بجميع ما
يملك، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقول لهم: (يأتي
أحدكم بما يملك، فيقول: هذه صدقة، ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان
عن ظهر غنى) رواه أبو داود.
وجملة: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) في الصحيحين. ونحو ذلك من الأحاديث.
وقد
يبدو وجود نوع من التعارض، بين آية سورة الحشر، التي مدحت الذين يؤثرون
على أنفسهم، ولو أدى بهم هذا الإيثار إلى الفقر والحاجة، وبين الأحاديث
الصريحة، التي تأمر بالبدء بالإنفاق على النفس والأهل أولاً، وتنهى عن
التصدق بجميع المال. فكيف جمع العلماء بين هذه الآية والأحاديث السابقة؟
ذكر
العلماء في وجوه الجمع أن الإيثار إنما يكره في حق من لا يملك الصبر على
الفقر، ويخاف أن يتعرض لسؤال الناس، والطلب منهم، إذا آثر غيره على نفسه؛
أما إذا كان يصبر على الفقر، ويعلم من نفسه أنه لن يصل به الأمر إلى حد
سؤال الآخرين، فالإيثار في حقه أفضل.
وهذا حال الأنصار الذين أثنى
الله عليهم بالإيثار على أنفسهم، فقد كانوا كما قال الله تعالى:
{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ}.. (البقرة:177)؛ فكان الإيثار في حقهم أفضل من الإمساك.
وذكروا
أيضًا أن الإيثار من باب الفضل والإحسان المستحب، والصدقة على النفس
والأهل من باب العدل الواجب؛ وفعل الواجبات هو الذي ينبغي على المكلف
القيام به أولاً، أما فعل ما هو مستحب فيأتي تاليًا لما هو واجب، وبشرط
ألا يتعارض معه، أو يزاحمه.
وقد وردت أحاديث عديدة، تفيد أن الواجب
على الإنسان أن يبدأ بالإنفاق على نفسه أولاً، ثم على أهله، ثم على الأقرب
فالأقرب؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك، فتصدق عليها) رواه مسلم،
وقوله: (وابدأ بمن تعول) رواه البخاري ومسلم، وقوله: (كفى بالمرء إثمًا،
أن يضيع من يقوت) رواه أبو داود.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا يكون
الإيثار، ولا يصار إليه، إلا بعد أداء الواجبات، وإيصال الحقوق إلى
أصحابها، فإن أديت الواجبات، كحقوق النفس والأهل والأقارب، فحينئذ يكون
الإيثار مستحبًا.
وعلى ضوء ما سبق، يمكننا فهم الأحاديث والوقائع
الدالة على إنفاق بعض الصحابة، ومن بعدهم، كل ما يملكونه من مال، كفعل أبي
بكر رضي الله عنه، عندما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متصدقًا
بجميع ماله، وسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك)، فأجاب
أبو بكر رضي الله عنه:
(أبقيت لهم الله ورسوله) رواه أبو داود و الترمذي ؛ فلم ينكر صلى الله
عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه تصدقه بجميع ماله؛ لما علمه من صحة
نيته، وقوة يقينه وصبره؛ لذلك لم يخف عليه الفتنة.
ومن هذا القبيل أيضًا فعل عائشة رضي الله عنها،
(أن مسكينًا سألها وهي صائمة، وليس في بيتها إلا رغيف، فأمرت خادمتها أن
تعطيه إياه). رواه مالك ؛ فأمثال هذه الأخبار، إنما تصح في حق من علم من
نفسه القدرة على الصبر، والتكفف عن سؤال الناس، وعدم تفريطه أيضًا بحقوق
الآخرين، وهذا ما كان عليه حال الصحابة رضي الله عنهم.
وحاصل
القول، أن الخطاب في آية الإيثار، وارد على سبيل الاستحباب والأفضلية، وفي
حق من علم من نفسه القدرة على الصبر وتحمل الضيق، ومن غير أن يضيع حقوق
الآخرين، ومن غير أن يدفعه الإيثار إلى سؤال الناس.
أما الأحاديث
الآمرة بالإنفاق على النفس والأهل، فالخطاب فيها وارد على القدر الواجب من
النفقة على النفس، والأهل، وأداء حقوق الآخرين. وعلى ضوء ذلك تتوافق
النصوص، وتتفق ولا تختلف.